لماذا أحببنا "الجوكر"؟!.. قراءة في الرسائل واللمسات الفنية

ميدان - فيلم الجوكر 11

حقق فيلم "الجوكر" نجاحاً مذهلاً على المستويين الجماهيري والنقدي؛ بل وتجاوز ذلك ليصبح أيقونة ومصدر إلهام، وشكّل نوعاً من الإنصاف للشعوب المقهورة. ولكي نفهم سر النجاح المذهل لهذه النسخة الأخيرة من الفيلم –وهي من بطولة خواكين فينيكس وإخراج تود فيليبس- لا بد أن نتأمل بعض الجوانب الهامة لهذا الفيلم؛ ألا وهي: التمثيل والسيناريو والإخراج.

لنبدأ أولا بعنصر التمثيل: ففي النسخة السابقة لفيلم الجوكر -وهي من إخراج كريستوفر نولان- قَدّم النجم هيث ليدجر مفهوماً فلسفياً للشخصية، وقد نجح فيها إلى درجة شكلت تحدياً لكل من يأتي بعده.

أما خواكين فينيكس فقَدّم في النسخة الأخيرة ذات الشخصية بمحتوى ذي بعد إنساني؛ أي أنه لم يكن شراًّ مطلقاً كما في النسخ السابقة. ذلك التفسير الإنساني حمل بعداً اجتماعياً أيضا نتيجة لمعاناة الجوكر مع محيط لا يرحم، ويدفعه إلى الجنون والتحول إلى فعل الشر.

انتهج خواكين فينيكس طريقة مدرسة إليا كازان ولي ستراسبرغ، وهي تطوير لتعاليم كوستانتين إستاسلافسكي الذي لفت أنظار العالم إلى أن التمثيل ليس موهبة فقط، وإنما هو عِلم يغوص في العمليات العقلية والحسية والانفعالية والعصبية والجسدية، ليستطيع الممثل أن يسيطر على أدواته سيطرة كاملة غير منقوصة.

وأول من أدخل هذه التعاليم إلى الولايات المتحدة الأميركية هي السيدة إستيلا إديلر، ومنها تلقفها لي ستراسبيرغ فأسس "استديو الممثل" الذي تخرج منه أساطين التمثيل؛ مثل: مارلون براندو، بول نيومان، جاك نيكلسون، داستين هوفمان، روبرت دي نيرو، أل باتشينو، ميريل ستريب، وغيرهم.

وهو استديو معنيّ بالأسلوب؛ أي تكوين أسلوب للشخصية غير منمّط أو مسبوق، وعدم تحكم "اللا وعي" في "وعي" الممثل عبر العمل على وجود مسافة بينهما، فلا يسيطر "لا وعي" الممثل على وعيه.

واستوديو الممثل يُعتبر مدرسة في فن التمثيل لها مريدوها، ولكن خطورتها أنها قد تنتهي في بعض الأدوار بمأساة، كما حدث في عرض لمسرحية "عطيل" ذات مرة.

بثبات انفعاليّ مذهل، وقدرة على التحكم في جهازه العصبي؛ نجح خواكين فينيكس في أن يُقّدِّم "الجوكر" بأسلوبية واحترافية شديدتين، مؤكدا -في نفس الوقت- إنسانية الشخصية. ولهذا تعاطفت الناس وتوحدت معها، وأصبح الجوكر داخل كل واحد منا

إذ اندمج الممثل الذي يؤدي دور عطيل في مشهد قتل ديدمونة؛ فقد كان المفترض أن يقوم بخنقها لشكه في خيانتها، لكنه بدأ بخنقها بالفعل فكادت المسرحية أن تنتهي بمأساة، لو لم يتم إنقاذ الممثلة في آخر لحظة. ولهذا فإن كل مدارس التمثيل في عصرنا هذا -ومن ضمنها مدرسة الأسلوب في "استديو الممثل"- تركز على رفض التقمص، وتعمل على سيطرة الممثل على أدواته.

لجأ خواكين فينيكس إلى مدرسة الأسلوب لكي يكّون سمات من لحم ودم لشخصية "الجوكر" بعيدا عن التنميط التقليدي؛ فنحت معالم شخصية إنسانية بكل ما تُمثله من ضعف وطيبة ومرض، إلى أن تتحول إلى الغضب والانحراف نحو الشر الدمويّ.

نجد أن خواكين نقص وزنه بشكل ملحوظ لكي يبدو مقنعاً في شخصية الجوكر التي تعيش واقعا مترعا بالفقر والمرض، وهكذا أطلق العنان لشعر رأسه لكي يبدو كما لو كان مهووساً بشكل أو بآخر، والأهم هو طريقة مكياج الجوكر التي حرص الممثل على تقديمها بشكل مختلف فكان يتدخل في كل التفاصيل.

قدّم خواكين مرض اضطراب التعبير العاطفي، أي متلازمة الضحك دون القدرة على السيطرة أحيانا، أو البكاء الهستيري أو الاثنين معاً. حالة عدم التحكم الانفعالي تلك قدمها الممثل بأسلوبية احترافية شديدة؛ بحيث لا تقع في دائرة المبالغة التعبيرية فتفقد الشخصية مصداقيتها عند الجمهور؛ وبذلك كان عليه أن يقدمها ممسكاً بالخيط الرفيع بين الأسلوبية والشكل الطبيعي لكي يستسيغه الجمهور.

وفي مواضع أخرى من الفيلم وخاصة المعنية باكتشافه لمعلومات يجهلها، أو كيفية قتله لروبرت دي نيرو مقدم البرنامج الأشهر في مدينة جوثام؛ لم تكن هناك مشاهد مبالغ فيها، وإنما قدمها بمراحل تبدأ بالسخرية، فالاتهام، فالهجوم عليه وقتله.

بثبات انفعاليّ مذهل، وقدرة على التحكم في جهازه العصبي؛ نجح خواكين فينيكس في أن يُقّدِّم "الجوكر" بأسلوبية واحترافية شديدتين، مؤكدا -في نفس الوقت- إنسانية الشخصية. ولهذا تعاطفت الناس وتوحدت معها، وأصبح الجوكر داخل كل واحد منا.

السيناريو: قدّم كل من الكاتب سكوت سيلڤر والمخرج تود فيليبس نسخة "الجوكر" الأخيرة، متأثريْن بشكل أو بآخر بفيلميْ "تاكسي درايفر" و"ملك الكوميديا"، وكلاهما من إخراج مارتن سكورسيزي وبطولة روبرت دي نيرو.

ويقدّم فيلم "تاكسي درايفر" -بمنطق أخلاقي وجمالي في آنٍ واحد- الشخصيةَ التي حاربت في فيتنام، ثم أصبحت وحيدة في عالم نيويورك القاسي المليء بالفساد الأخلاقي، فتحَوّلت كما تَحّول "الجوكر" إلى الفعل العنيف.

ويقدم فيلم "ملك الكوميديا" شخصية "روبرت بوفكين" المهووسة بأحد أشهر مقدمي البرامج الكوميدية، وتختلط على المشاهِد أحياناً الأحداث الواقعية مع ما يدور في ذهن الشخصية، تماماً كما في الجوكر حيث تختلط الأحداث الواقعية بما يدور في ذهن شخصية "رثر فيلك" التي لعبها خواكين فينيكس. ولذلك لا نستغرب أن الجهة المنتجة عرضت إخراج الفيلم على مارتن سكورسيزي (الأب الروحي لهذه النوعية من الأفلام)، إلا أنه اعتذر لارتباطه بفيلم "الأيرلندي".

نعود إلى ما فعله سكوت سيلڤر وتود فيليبس بالسيناريو؛ فقد قدما شخصية ليست شرّاً مطلقا كما كانت تقدَّم، وإنما جعلوا الشرّ نتيجة لمجموعة ظروف اجتماعية قاسية. أي أن الفيلم بدأ على أرضية اجتماعية إنسانية؛ ومن ذلك على سبيل المثال: ألغت الحكومة في الفيلم دعم الأدوية، فتأثر آرثر فيلك المقيم في مدينة جوثام بهذا القرار، وتوقف عن أخذ الدواء الذي كان يحفظ له توازنه.

بالعودة إلى التاريخ؛ نجد أن الرئيس الأسبق رونالد ريغان كان قد ألغى عام 1981 قانون أنظمة الصحة العقلية -الذي سبق أن أقره سلفه الرئيس جيمي كارتر- وكان هذا بداية لظهور كثير من المشردين والمختلين عقلياً ونفسياً في شوارع نيويورك.

نستطيع أن نلحظ في ثنايا السيناريو أن مدينة "جوثام" تتكون من طبقة مسيطرة وأخرى لا تملك حتى الفُتات. ونرى اعتداء مجموعة من شباب الطبقة الأولى على آرثر في المترو بالضرب والإهانة، قبل أن يبدأ جنوحه الكلي للعنف وتنتابه نوبات الجنون العنيف لحد الشروع في قتلهم. وهذا مشابه أيضا لحادثة حقيقية وقعت في نيويورك: وهي اعتداء مجموعة شباب من أغنياء وول ستريت -وهو شارع المال والقوة- على أحد الشباب المتسولين مما دفعه لقتلهم.

بالتأكيد؛ قاد المخرج تود فيليبس -بكثير من الألمعية- هذا المشروع الفني ليُقّدم تفسيراً جمالياً اجتماعيا بامتياز. فقد اختار كل الأماكن الموحية بنيويورك لكي يجعلها أرضية أو خلفية للأحداث في مدينه جوثام، وهذا التوظيف أكسب الفيلم دلالة سياسية

وننتقل الآن إلى محور آخر؛ وهو اكتشاف آرثر أنه ابن بالتبني وأن توماس وين ليس أباه، وأن أمّه -في الماضي- سمحت للأب بضربه بقسوة في منطقة الرأس، مما تسبب في مرضه فيما بعدُ، وأن توماس وين -الثري الذي يمتلك القصور- يحتقر ابنه آرثر فيلك ويضربه أيضا. وفي مشهد آخر؛ يذهب آرثر إلى قصر توماس لكي يرى أباه يستمتع برغد ونعيم، بينما يعاني هو شظف العيش.

لا شك أن تلك الإشارات والمحاور قد شكّلت الأرضية الاجتماعية التي ستقف عليها أحداث الفيلم، بل وتُكّون حالة من تعاطف المشاهد مع شخصية آرثر، من خلال سرد تراكمي يدفع المشاهد إلى تبرير عنف الجوكر بل ويتوحد معه، لتكتسب شخصية الجوكر بعداً ثورياً شعبياً، تماما كمعادلها الموضوعي روبين هود.

الإخراج: بالتأكيد؛ قاد المخرج تود فيليبس -بكثير من الألمعية- هذا المشروع الفني ليُقّدم تفسيراً جمالياً اجتماعيا بامتياز. فقد اختار كل الأماكن الموحية بنيويورك لكي يجعلها أرضية أو خلفية للأحداث في مدينه جوثام، وهذا التوظيف أكسب الفيلم دلالة سياسية.

وقد تمكّن تماما أيضا من السيطرة على الشريط الصوتي للفيلم، فلم يقدم وجبة موسيقى تصويرية مبالغا فيها، كما جعل من كل أماكن تصوير الفيلم أيقونات يتذكرها الناس؛ ومثال ذلك: السلم الذي رقص عليه الجوكر رقصته المشهورة المؤثرة.

نعم؛ لقد استطاع تود فيليبس أن يُقدم معزوفة بصرية سمعية مؤثرة ومنضبطة. لا تجنح إلى الميلودراما برغم جاهزية الأحداث لذلك، والأكثر من هذا تفهمه وإدارته للممثلين وبالذات خواكين الذي أتاح له تعداد وطول اللقطات، لإظهار وإبراز انفعالاته المركّبة والمعقدة دون أن ينزلق إلى منحه إطلالات مجانية. إن تود فيليبس مخرج ننتظر منه الكثير.

لا شك أننا أمام عمل مثالي؛ وإذا سألنا: كيف يتأتى النجاح لعمل فني؟ فإن الإجابة هي العمل بروح الفريق، والتفاهم والانسجام والجدية، كل ذلك يولّد الجِدة والدهشة والنجاح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.